2014-5-12
View :628

من وصية أمير المؤمنين لولده الحسن (عليهما السلام): (وان كنتَ جازعا على ما تفلت من يديك، فاجْزع على كل ما لم يصل اليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان فان الامور اشباه، ولا تكونن ممن لا تنفعه العِظَةُ اذا بالغت في ايلامه، فان العاقل يتعظ بالآداب والبهايم لا تتعظ الا بالضرب، اطرح عنك واردات الهموم بعزايم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسب والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى).



تفلّت: تخلّص من الفَلْت على وزن فقر بمعنى الخلاص.



وقد نبّه الإمام (عليه السلام) على ترك الجزع والأسف والحزن على ما يخرج من يد الانسان من مال او ما فاته من رزق او منصب او أي حظ من حظوظ الدنيا فان الذي خرج من يده كالذي لم يصل اليه في انه ليس برزق له وليس مما قضى الله تعالى به.



ثم يقول (عليه السلام): (استدلَّ على ما لم يكن بما قد كان فان الامور أشباه)، أي استدلّ على ما لم يحدث من امور الدنيا واحوالها ومتغيراتها على ما كان وحدث منها وذلك ان يقيس نفسه وما ترغب فيه من متاع الدنيا على ما سبق من حصول هذا التغير على اهلها السابقين، وبإمكان الانسان من خلال مطالعة حالات القدماء والمجتمعات الماضية بل وحتى مراجعة ما واجهه من حوادث ومتغيرات في سنوات عمره الماضية بل التأمل في احوال المحيطين به ان يتعرّف على احوال نفسه من انها غير ثابتة وقابلة للزوال والتغيير.



ويقول أيضاً: (ولا تكونن ممن لا تنفعه العِظَةُ اذا بالغت في ايلامه، فان العاقل يتعظ بالآداب والبهايم لا تتعظ الا بالضرب)، وهنا حذّر الإمام (عليه السلام) ان يكون ممن لا تنفعه العظة والنصيحة فيما ينصح به من رأي ومشورة الا اذا بالغت في النصيحة ولجأت الى التوبيخ واللوم له وضرب له العاقل مثلا ًفي اتعاظه بالأدب وتذكيره بالنصيحة ليقيس نفسه عليه فيتعظ بالنصيحة، وعندما رفع الله الإنسانَ بالعقل فيجب ان ينزه نفسه عن لازمها فلا يحتاج الى ايلام وعتاب ولوم بقول او فعل.



وفي مقطع آخر من وصيته، يقول أمير المؤمنين: (اطرح عنك واردات الهموم بعزايم الصبر وحسن اليقين)، وفيه ينصح الإمام (عليه السلام) بأن يطرح الانسان عن نفسه ما يرد عليها من الغموم والهموم ومصائب الدنيا بالصبر الثابت الناشئ عن حسن اليقين بالله تعالى وبأسرار حكمته وقضائه وقدره، وذلك بأن يعلم يقيناً ان كل امر صدر من الله تعالى وابتلى به عباده من ضيق رزق او سعته او مرض او مصيبة او كدر وكل امر مرهوب او مرغوب فعلى وفق الحكمة والمصلحة بالذات وما عرض من ذلك مما يُعد شراً فأمر عرض لا يمكن نزع الخير منه اذ يمكن ان يخفى وجه الخير من الانسان فاذا كان متيقناً استعدت النفس للصبر ومفارقة الغم والجزع.



وهذه العبارة إشارة من الإمام (عليه السلام) الى ان الحياة عبارة عن مجموعة من الحوادث الحلوة والمرّة، وكثيراً ما يرد على الانسان أقدار تسبب له الغموم والاحزان، حيث تارة هموم اجتماعية او مالية او عائلية او مرضية، والإنسان اذا رضخ لها وخنع امام هجوم هذه الهموم فسوف يعيش الاخفاق والفشل والعجز في الحياة، ولكن يستطيع التغلّب عليها ويتحدّى هذه الحالات بالاستعانة بأمرين:



1. قوة الصبر والاستقامة وان يعلم انه سواء أصبرَ ام لم يصبر فان مثل هذه الحوادث والاقدار خارجة عن ارادته، فلو صبر سوف يكون مأجوراً وان ترك الصبر فان حوادث الدهر لا تتركه وتتوقف لأنه لم يصبر بل تستمر في جريانها ولكن سيفقد الاجر والثواب.



2. ان يجهّز نفسه بقوة اليقين، قال تعالى : (قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا) ومعلوم ان التقديرات الالهية تنطلق من موقع الحكمة والتدبير الالهي الناشئ عن المصلحة التي ربما تخفى على الانسان سواء علمنا بهذه الحقيقة ام لا وبالتالي تستطيع بهذين الامرين ان نهدئ النفس ونجعلها تتحمّل وتسير في معترك الحياة بقوة وصلابة وتحمّل ويحقق الانسان بذلك النجاح في الحياة.



وعودة أخرى على وصيته (عليه السلام) حيث يقول: (والصاحبُ مناسب والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى).



وكلمة (مناسب): من مادة نسب وجاءت هنا بمعنى الاقرباء، أي حال الصاحب حال اقرباء الانسان وارحامه، وقد نبّه الإمام (عليه السلام) على حفظ الصاحب الحق والرغبة فيه باعتبار مودته وحسن معاضدته كالنسيب، فان رابطة الصداقة وطبيعة العلاقة بين الاصدقاء الحقيقيين تكون قوية الى درجة انها تحل محل رابطة القرابة والنسب؛ بل تارة تكون اقوى من ذلك.



ويقول (عليه السلام): (والصديق من صَدَقَ غيبه)، فقد عرّف الإمام (الصديقَ الحقَ) بعلامته ليعرف بها فيصادق، واراد بصدقه في غيبه صدقه في ضميره وباطنه وسريرته تجاه صديقه، وفي ذلك اشارة الى ان بعض الاشخاص يظهرون المحبة والعلاقة الطيبة في حضور المرء ولكن ربما لا يكون ذلك علامة حقيقية على صدقهم وصداقتهم، فالصديق الحق انما يعرف وينيب في غياب صديقه اذا راعى حقوقه وتحدث عنه في غيبته كما قال في حال حضوره.



(والهوى شريك العمى)، فكما ان الاعمى لا يرى ما حوله من الاجسام حتى لو كانت قريبة منه ومجاورة له، فان بعض الاشخاص يصلون الى درجة من اتباع اهواء انفسهم وشهواتها وتعلقهم بالدنيا والمال وبعض الامور الدنيوية ما يُعمي عنهم الحقائق، وقد صرّح الامام (عليه السلام) بهذه الحقيقة حيث يقول: (فارفض الدنيا فانّ حبّ الدنيا يُعمي ويُصِمُّ ويُبكِمُ ويُذِلُّ الرقاب).




مستقاةٌ من الخطبة الاولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 4/جمادي الاخر/1435هـ الموافق 4-4-2014م.